الفيضانات القوية التي اجتاحت آسفي لم تُودِ فقط بحياة 37 شخصًا، بل قتلت ما تبقى من وهمٍ قديم اسمه برامج التنمية التي تُصرف عليها ملايير الدراهم سنويًا. فحين تغرق أحياء كاملة في دقائق، وتتحول الشوارع إلى سيول قاتلة، وتنهار منازل ودكاكين الفقراء كأوراق كرتون، لا نكون أمام كارثة طبيعية، بل أمام مسؤولية بشرية اسمها الفساد. المطر لم يفاجئ أحدًا، لكن الإهمال كان مقصودًا، والتهميش مزمنًا، واللامبالاة تراكمت طيلة عقود، حتى صارت المدينة عارية أمام أول اختبار طبيعي حقيقي.
ما جرى في آسفي ليس استثناءً، بل نتيجة منطقية لسنوات طويلة من التهميش وسوء التدبير واحتقار الإنسان. مدينة بلا شبكات صرف تحترم اسمها، بلا تخطيط حضري، بلا وقاية، بلا رؤية. مدينة تُترك لتتآكل ببطء، ثم يُطلب من سكانها تقبّل الموت كقدر، وكأن الغرق جزء من الجغرافيا، لا نتيجة مباشرة لفساد أصحاب القرار وغياب المحاسبة.
المفارقة الصادمة أن هذا يحدث في مدينة تقوم فوق واحدة من أعظم الثروات الصناعية في المغرب. آسفي ليست بلدة منسية في الهامش ولا قرية معزولة في الجبل، بل قلبٌ صناعي نابض: مجمع الفوسفاط، مركب الجرف الأصفر، محطات الطاقة الحرارية، مخازن الطاقة السائلة، وبنى استراتيجية تُدرّ المليارات على الدولة. ومع ذلك، تعيش المدينة الفقر والبطالة والتهميش، وكأنها لعنة جغرافية لا مدينة منتِجة للثروة. فلا أثر لهذه المليارات في البنيات التحتية، ولا في المستشفيات، ولا في المدارس، ولا في فرص الشغل، ولا في الكرامة.
آسفي، التي تُعد عاصمة الطاقة في المغرب، لا تجني من كل المركبات الصناعية التي توجد على أرضها سوى السمّ: سمّ في الهواء، وسمّ في البحر، وسمّ في التربة، وسمّ في الماء. تلوث مزمن يُنهك الأجساد بالعلل الدائمة، وأمراض تحصد الأرواح في صمت، وسكان يدفعون بأجسادهم ثمن نموذج تنموي لا يعترف بهم.
المسؤولون عن هذه الجريمة متعددون: منتخبون فاسدون، وسلطة محلية متواطئة. وأدوات الجريمة واضحة: صفقات مشبوهة، ومشاريع متعثرة، وبنى تحتية مغشوشة، وغياب شبه تام لأي محاسبة فعلية.
آسفي، أو “أسيف” أي الوادي بالأمازيغية، التي كانت تاريخيًا منارة حضارية منذ عهد الموحدين، لم يعد يُذكر اسمها إلا في التقارير التي تتحدث عن ارتفاع نسب التلوث الصناعي في المغرب، أو في التقارير الحقوقية عن الاعتقالات والمحاكمات التي تطال الشباب العاطل حين يخرج للمطالبة بحقه في العيش بكرامة.
آسفي اليوم ليست ضحية الطبيعة، بل ضحية اختيار سياسي واضح عنوانه سنوات طويلة من التهميش وسوء التدبير وغياب المحاسبة. فهي لم تغرق بسبب مياه السيول فقط، بل لأنها كانت تغرق منذ سنوات في صمت: تغرق في سموم التلوث، وتغرق في الفقر المدقع، وتغرق في اللامبالاة السياسية، وتغرف في الفساد الذي أنهك جسدها مثل سرطان قاتل.
فيضانات آسفي عرّت واقعًا مؤلمًا، وإذا لم يتحول ما جرى إلى لحظة وعي جماعي ومساءلة حقيقية، فإن الضحية القادمة لن تكون مجرد أرقام في حصيلة مؤقتة، بل دليلًا جديدًا على مدينة تُترك لتدفع ثمن ما لم ترتكبه.
آسفي لا تحتاج إلى شفقة، بل إلى عدالة ترابية، وحكامة حقيقية، واعتراف صريح بحقها في الثروات التي تُنتج فوق أرضها. والفيضانات الحالية لم تكن إنذارًا، بل شهادة اتهام، تحتاج إلى قرار سياسي شجاع يعترف بأن ما تعيشه ليس قضاءً وقدرًا، بل فشل سياسات وسوء تدبير مسؤولين فاسدين حان وقت محاسبتهم.
https://www.facebook.com/share/17iuMcuTDg/

Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire