لماذا نحب قراءة عبد الفتاح كيليطو؟
محمد مشبال
ما يكتبه كيليطو هو أقرب إلى الكتابة الأدبية منه إلى الكتابة النقدية؛ فكأنه يقرأ الأدب ليكتب أدبه الخاص، ولعل خاطرا أوحى له بأن الحديث عن الأدب بالمفاهيم المجردة لن يلقى قبولا خارج دوائر المتخصصين ممن نسميهم نقاد الأدب أو دارسي الأدب من طلاب أقسام الآداب في الجامعات، لأجل ذلك أحبَّ الكُتّاب-القرّاء بدل النُقّاد بالمعنى الاصطلاحي الدقيق للفظ؛ هؤلاء الكُتّاب-القرّاء أمثال الجاحظ وبورخيس يتحدثون بامتنان عن الكتب التي تركت فيهم أثرا لا يزول؛ إنهما يستدعيان الكتابات التي قرآها. ولهذا السبب لم ينجح كيليطو في تأليف دراسة نقدية صارمة حتى وهو يؤلف أطروحته عن المقامات؛ إنه يصنف نفسه ضمن زمرة الكُتّاب-القراء الذين أحبَّهم.
لم تستهو كيليطو صناعة النقد ولا صناعة علم الأدب، حتى وإن تكلم عن الكلام أو تحدث عن نصوص أدبية وخاض في تفسيرها كما فعل مع نصوص الجاحظ والمقامات والليالي والحكاية المثلية وغيرها من أنواع أدبنا العربي القديم. لم يشغل نفسه بالمناهج النقدية مثل أقرانه من الباحثين المغاربة (وغير المغاربة) الذين تلقوا ثقافة نقدية حديثة كانت قد بدأت تستهوي النقد المغربي في السبعينات، مثلما أنه لم يدافع عن المناهج الأدبية التقليدية، لأنه لم يكن يعدّ نفسه ناقدا أدبيا ولا دارسا للأدب يؤلف دراسات للمتخصصين الذين يبحثون عن إغناء لغتهم النقدية بمصطلحات ومفاهيم نقدية دقيقة. لكن من الثابت أنه سعى إلى أن يكون وسيطا بيننا وبين النصوص التي كان يقرأها، لكنه أراد أن يكون وسيطا مختلفا عن الوسيط السائد المتمثل في صورة الناقد أو عالم الأدب على نحو ما نتمثلهما اليوم؛ ألم يقل إنه قرأ رولان بارت كما قرأ كلّ ما كان ينشر من نقد جديد في فرنسا، لكنه أيقن أن ما يكتبه بعيد عن هذا النقد، وأنه لا يمكن أن يكون ناقدا يفسّر النصوص ولا عالما للأدب يخوض في بناء المفاهيم والنظريات حول الأدب. ويعزو سبب ذلك، إلى كونه سليل "القصص المصوّرة والروايات"؛ ولأجل ذلك كان ما كتبه من "محاولات نقدية" شيئا شبيها بالحكايات.
هل كان كيليطو يروم تأصيل صناعة جديدة بديلة عن صناعتي النقد الأدبي وعلم الأدب؟ هل كان يراهما صناعتين آيلتين إلى الاندثار لا محالة إن عاجلا أم آجلا؟! لنتذكر أن أدبنا القديم الذي افتُتن به كيليطو لم يعرف صناعتي النقد وعلم الأدب إلا في حدود ضيقة جدا؛ فالنقد الأدبي في تراثنا باهت الحضور والتأثير في الثقافة العربية، إذا ما قيس على الأقل بالبلاغة؛ هذا إن لم نقل إن معظم الكتب النقدية التي تُصنّف في باب مؤلفات النقد في تراثنا ليست سوى كتب في البلاغة التي كانت تعنى بصناعة الخطاب بشكل عام.
لم يكن الجاحظ والتوحيدي والهمذاني وابن خلدون والمعري وغيرهم من رموز الأدب العربي القديم نقادا للأدب، على الرغم من أنهم تحدثوا عن الأدب مثلما تحدثوا عن غير الأدب من شؤون الحياة. لقد أدرك عبد الفتاح كيليطو الذي استهواه الأدب القديم، وكان له فضل كبير في صيانة قيمته من الانسحاق تحت سنابك مفهوم الأدب الحديث، أن قراءة هذا الأدب تحتاج ليس إلى عُدّة مغايرة للعُدّة التي نقرأ بها الآداب الحديثة، ولكن إلى وعي مختلف اختلافا جذريا؛ فلا أدوات النقد التقليدي ولا أدوات النقد الجديد تنفع في إقامة الحوار مع نصوص هذا الأدب. بل ذهب كيليطو مذهبا أبعد مما يمكن أن نتصوره؛ لعله تساءل: هل من الضروري أن "ننقد" هذه النصوص، هل "النقد" هو الممارسة الوحيدة الممكنة للحديث عن عمل أدبي ما؛ أليست هناك ممارسات خِطابية أخرى؛ ألم يكن الجاحظ يتحدث عن الآداب وهو ينسج نصوصه عن العصا والنساء والقيان والحُجّاب والترك والسودان والجواري والغلمان والكتّاب والمعلمين وغيرهم؟! ألم يكن الجاحظ يصنع أدبه من نسيج نصوص غيره؟! أولم يكن كيليطو يصنع كتاباته من نسيج نصوص الأدب القديم التي استهوته وحرّكت خياله؟ ألم يقدم لنا نفسه بوصفه كاتبا لا ناقدا بموضوعاته وخياله وعناوين كتاباته: "الغائب" و"لن تتكلم لغتي" و"من شرفة ابن رشد" و"العين والإبرة" و"حصان نيتشه" و"أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية" و"الكتابة والتناسخ" و"الأدب والارتياب" و"أبو العلاء المعري أو متاهات القول"..؟
أو لم نحب قراءة كتب كيليطو لأنها تخاطب القارئ الإنسان وتحببه في اكتشاف عوالم الكتب التي حدّثه عنها؟ تُعلِّمنا هذه الكتب أن القراءة قيمة في ذاتها؛ فمن يُقبل على كتابات كيليطو، يقبل عليها سعيا إلى المتعة ولذة الاكتشاف، كما لو أنه أقبل على قراءة رواية أو حكاية أو رسالة من رسائل الجاحظ. فهل كان كيليطو يستلهم بهذا الأسلوب في التأليف الكتابات النثرية العربية القديمة التي استهوته بخصوصيتها الفريدة؟
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire