"رُوح الفيلسوف في رأسه، وروح الشاعر في قلبه، وروح المغني في حنجرته، أما روح الراقصة فهي في كل جسدها". هذه المقولة لجبران خليل جبران، تتصدر أطروحة دكتوراه شاركتُ في مناقشتها مؤخراً بجامعة إشبيلية (عبر تقنية التناظر المرئي)، وقد أنجزتها الباحثة الإسبانية "ماريا أليخاندرا كونتريراس".
عندما نقرأ المقولة المشار إليها أعلاه ونطلع على عنوان الأطروحة، وهو "الرقص في العالم العربي الإسلامي"، نظن أن الأمر يتعلق بالرقص كظاهرة فنية معاصرة، لكن عندما نغوص في الأطروحة، نكتشف أن الأمر أعمق من ذلك بكثير، فقد تناولت الرسالة موضوع الرقص في مختلف ربوع العالم الإسلامي وفي الأندلس، على امتداد أكثر من عشرة قرون (ما بين القرنين السادس والسادس عشر الميلاديين).
نحن أمام مجال تعوزه المصادر، فليس هناك أي كتاب في التراث الإسلامي تناول موضوع الرقص بشكل منفصل، من هنا التحدي الأول الذي واجهته صاحبة الأطروحة، والتي كان عليها أن تغوص في المصادر التراثية الدفينة من مختلف الأجناس الفكرية، لتعثر على شذرات حول الرقص، تمكنت من خلالها من أن تضع خيطاً ناظماً سمح لها بتتبع موضوع الرقص في العالم الإسلامي من صدر الإسلام إلى طرد المسلمين من الأندلس.
من خلال الأطروحة نكتشف أن الرقص ليس ظاهرة فنية فقط، وإنما ظاهرة اجتماعية، وثقافية، وسياسية، وأدبية، وعسكرية (علاقته بالتداريب العسكرية في المواجهات الحربية)، وروحية (علاقته بالتصوف والسماع الصوفي). وعلى امتداد الدراسة، كانت الباحثة تميز بين الرقص وبين الزفن وهو نوع من أنواع الرقص له طقوس خاصة.
وبحكم أن الباحثة استخدمت زخماً هائلاً من كتب التراث، فقد بدأت بالتنقيب في الأحاديث النبوية، واعتمدت بالأساس على صحيح البخاري. بعد ذلك تناولت الموضوع حسب ما ورد في كتب الفقه، واعتمدت في ذلك على أهم فقهاء الإسلام من أمثال ابن حنبل، وابن تيمية، والنووي، وابن الجوزي.
بالنسبة للرقص عند المتصوفة، أخذت كنموذج ابن عربي، والغزالي، وخصوصاً جلال الدين الرومي، حيث تناولت بالتحليل رقصة الدراويش في الطريقة المولوية التي أسسها جلال الدين الرومي. وبالنسبة للفلسفة، تناولت الأطروحة موضوع الرقص عند الفرابي، في مؤلفه "كتاب الموسيقى الكبير".
بعد ذلك تطرقت الأطروحة لموضوع الرقص في المصادر التاريخية، وأبرزت ما جاء عند ابن خلدون في مقدمته. وكذلك فعلت مع الجغرافيين، حيث أوردت ما جاء عند ابن خردذابة وخصوصاً عند المسعودي في مروج الذهب. وفي كتب الرحلة تطرقت لما ورد في الموضوع عند ابن بطوطة.
بالنسبة للأدب، تناولت الموضوع في مقامات الحريري، وفي كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وخصوصاً في حكايات ألف ليلة وليلة، حيث حللت الظاهرة من الناحية الفنية والأدبية والسياسية والغرامية.
وبحكم أن الأطروحة تمت مناقشتها في جامعة أندلسية، فقد كان طبيعياً أن تخصص مجالاً معتبراً للرقص في الأندلس، بحيث تتبعت هذه الظاهرة منذ وصول المسلمين إلى الأندلس، إلى مرحلة الطرد الجماعي للموريسكيين. وتمكنت من تصحيح فكرة شائعة، تربط الرقص في الأندلس بمرحلة الضعف السياسي، وتحمل حياة اللهو بشكل عام مسؤولية الضعف الذي أصاب الأندلس على عهد ملوك الطوائف. من خلال تتبع الأطروحة يتبين لنا أن الرقص لم يرتبط فقط بمرحلة ملوك الطوائف، بل عرفته الأندلس في مختلف مراحل حكم المسلمين.
بالنسبة للمصادر التي اعتمدتها الدراسة حول الرقص في الأندلس، فهي كثيرة ومتنوعة، وتنتمي لمختلف الحقول المعرفية، فقد تحدث عنه ابن رشد، وابن بسام، وابن حيان، وابن حزم، وابن زمرك، وابن شُهيد، وغيرهم.
في تناول الأطروحة لموضوع الرقص عند الموريسكيين، تورد الباحثة ما جاء عند بعض الكتاب الموريسكيين مثل خوليو ربضان، ولكن بالخصوص ما ورد عند الرحالة الأوربيين الذين زاروا اسبانيا في القرن السادس عشر. وقد تتبعت الدراسة كذلك ظاهرة الرقص في البقايا الأثرية، مثل اللباس، والخزف، والرسوم، والآلات الموسيقية، وغيرها من الأمور المعروضة في المتاحف.
حصلت الأطروحة على ميزة حسن جداً، وقد تألفت لجنة المناقشة من الدكاترة: ماربيياس أغيار (رئيسة)، عبدالواحد أكمير (عضواً)، إيفا لا بييدرا (عضوة)، ماريا غرثيا (عضوة)، خوان كليمينتي رودريغيث (عضواً). أما الإشراف فهو للدكتورة فاطمة رولدان.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire