عندما نرزأ في أحد احبتنا، أو رفاقنا الأعزاء، تنهال عليك دفعة كل الذكريات، والصور، والمحطات الذي جمعتك بالفقيد، مما يصعب لحظة الفاجعة ترتيبها.
هكذا كان وقع خبر رحيل بوبكر الخمليشي، الذي تم تشييعه في جنازة/ مسيرة مهيبة، توافد عليها كل من يقدر تضحيات الرجل من أجل مغرب أفضل، من مختلف الأطياف والأماكن.
كما تم تنظيم خيمة للعزاء والتأبين، حيث ألقيت كلمات في حق الراحل، تذكر بمناقبه ومساهماته، وتضحياته من قبل رفاقه، وتمثيليات إطارات حضرت التأبين، وشهادات عاملات يحتفظن بذكرى وفاء للرجل رافقهن خلال اعتصامات عمالية.
وأنا أستمع لتلك الكلمات التي لا تخلو من صدق اللحظة، كانت تحضرني الأوجه الأخرى لبوبكر، قد تبدو تفاصيل وأحداث عادية، مقارنة بحجم مهام التنظيم السياسي، سواء في حلته الأولى- إلى الأمام السرية- حيث تحمل الفقيد أعباء إعادة البناء المنظمة - تحت نيران العدو- والضريبة الفادحة كان لها الأثر المزمن على صحته، بسبب قساوة التعذيب والإضرابات الطعامية التي خاضها المعتقلين بالسجون. كما لم تسلم عائلته الصغيرة من أثر السجن.
كانت محطة عشرين فبراير بداية احتكاكي الشخصي بوبكر ، قبلها كان الفقيد لا يخرج عن البروفيلات والتمثلات المتواترة لمعتقلي اليسار الجديد، بطولات فذة، سقف رهان مرتفع، عناد كبير…إجهاض حلم لم يكتمل.
صباح عشرين فبراير، وهي لحظة فارقة، امتزجت بالإقدام المشوب ببعض التردد والخوف..عندما وصلت لساحة بني مكادة/ التحرير، نقطة إعلان انطلاق حركة عشرين فبراير بطنجة، تراءى لي بوبكر من بعيد وسط شباب قلة، مكسِّراً لحظة التردد والانتظار، بعدها كان الطوفان الجماهيري الغير مسبوق.
على طول مسافة المسيرة كنت أصادف بوبكر منتشيا، مراقبا وموجها لرفاقه، وعند وصول المسيرة لنقطة التوقف/ساحة الأمم، حضر السؤال وماذا بعد؟
طبعا، كانت تتداعى تجارب من سبق تطلعات بعض شباب الحركة، وتحضر صورة ميدان التحرير بمصر بكل فعاليته المبهرة، وبينما الجماهير تردد الشعارات، منتظرة ما سيؤول اليه الوضع، وما يرشح من قرار، ومشاورات على الهامش بين الأطراف السياسية، عندها سأصادف بوبكر ليهمس على مسامعي بالحرف بخصوص ماذا بعد "لا يمكن أن نقرر ونقدم على شكل نضالي، ونعلن عن خطوة موالية من دون تنسيق ومعرفة ما يجري بالمدن الأخرى، علينا أن ننتظر حتى لا نتورط في خطوة معزولة" وطبعا كان ينتظر هاتف توجيه التنظيم، عندها كان قد تشكل المجلس الوطني لدعم حركة عشرين فبراير برئاسة عبد الحميد أمين.
بعدها، وفي خضم معمعان حركة عشرين فبراير، كانت محطات نضالية، ومطاردات، أتذكر كيف انتهينا مطاردين بأحد الشوارع الخلفية ببني مكادة خلال مسيرة 22ماي 2011، والتي عرفت قمعا ومطاردات واعتقالات في صفوف المتظاهرين، وفي لحظة سيشير لي بوبكر بأن المنطقة مطوقة، وعلينا المغادرة و الانسحاب بأسرع ممكن، ونجحنا في أ لتسلل لمقر جذور القريب.
بعد حدث عشرين فبراير، ستتشكل تنسيقية دعم شباب عشرين فبراير المشكلة من الإطارات، وستنتظم في اجتماعات ماراثونية، وسيكون الوافد الجديد عليها جماعة العدل والإحسان، بما يحمل ذلك من ريبة وحرج لبعض الأطراف، ومحاولة تجاوز ندوب الماضي. وكنت ألحظ مدى الاحترام والتقدير الذي تبديه الجماعة للفقيد بوبكر، والأخذ برأيه والانتباه لمداخلاته.
بقدر ما يبدو الفقيد متساهلا، يحاول القبض بالخيط الرفيع بين جميع المكونات على تبايناتها، وحدة خلافها أحيانا، يكون صارما متشبثا برأيه عندما يلزم الموقف ذلك، أتذكر اجتماع تنسيقية دعم حركة عشرين فبراير عندما قامت بإلغاء مسيرة 27 فبراير2011 المقررة في آخر لحظة، وكيف ظل بوبكر متشبث بقرار المسيرة، والحضور صباحا لساحة التحرير احتراما وتقديرا للجماهير التي تم تعبئتها على طول الأسبوع.
دائما، وفي سياق دينامية حركة عشرين فبراير عرفت مسيرة 6 مارس اعتقالات بالجملة، غير أن إصرار الجماهير جعل بني مكادة مسرحا للمطاردات والمواجهات بالشوارع والدروب الخلفية ، وبعدما استمرّ ذلك لحدود التاسعة، سيتم ربط الاتصال بأحد أعضاء التنسيقية من قبل المسؤول الأول ميدانيا للسلطة في محاولة جس النبض، وبينما كان موقف السخط ورد فعل الرفض لأي تواصل يغلب على وفد أعضاء التنسيقية الذي تصادف وجودهم بجانب الكوميسارية في مهمة لتفقد المعتقلين الذين تم القبض عليهم ، كان رأي بوبكر مخالفا للجميع، وحاسما، مؤكدا على ضرورة التفاوض، فالوقت متأخرا، ولا أحد يتحكم في هذه المواجهة المفتوحة، والمآلات المترتبة عنها، منهيا القول" استمرار المواجهات بهذا الشكل في غير صالح حركة عشرين فبراير". أخذ برأي بوبكر ، وتم التفاوض على إخلاء نصف ساحة بني مكادة من قبل قوى الأمن،ودخول المتظاهرين للساحة، وبعدها سراح الموقوفين.
خلال الحوارات مع السلطات وكل الجهات الرسمية، يبقى بوبكر مقتصدا في تدخله، غير أنه يذهب مباشرة للقصد، ويكون وصريحا في التعبير، أتذكر كيف فاجأ المسؤول الأول بالولاية ذات لقاء" لا تضربوا المتظاهرين على رؤوسهم، وأطراف أجسادهم الحساسة، ذلك يسبب في الإعاقات..يمكنكم الاعتقال إن شئتم من دون تعنيف".
بقدر ما كان بوبكر الخمليشي مناضلا مؤمنا بالتنظيم كوسيلة للتغيير، وهو الداعي لتحمل مسؤولية إعادة بناء منظمة إلى الأمام بعد اعتقال القيادات المؤسسة، كما سينخرط مباشرة بعد خروجه من السجن في عملية التجميع، وتأسيس النهج الديموقراطي بعد ذلك، وسيظل دينامو التنظيم على مستوى الشمال.
غير ان بوبكر لم يرتكن للمسؤوليات السياسية والتنظيمية للحزب على جسامتها، بل ساهم في تأسيس جمعيات مدنية باهتمامات متنوعة، وهيكلها في ما بات يعرف بشبكة جمعيات الشمال، حيث كان أحد أقطاب المجتمع المدني بالشمال، وجسرها عبر الضفتين، هذه التجربة الممتدة لعقدين كلفته الكثير من الجهد والوقت، كما عرضته لانتقادات عدة، وكثير من النقمة والإشاعات من داخل تنظيمه النهج وخارجه.
بقدر ما كان بوبكر مشدودا لمهام التغيير الكبرى، كان ينتشي لبعض الإنجازات على بساطتها، تعلق الأمر بنشاط جمعوي، أو انتزاع حق لفئة متضررة، وكان ذلك بمثابة غذاء وزاد لمواصلة المشوار، والتطلع نحو التغيير المنشود.
خلال زيارة له بمنزله، استرجع بوبكر رفقة زوجته لمياء بعض محطات تجربة تجميع وتنظيم ضحايا فاجعة غرق معمل النسيج والذي خلف حوالي ثلاثين ضحية، والمعاناة الصحية والنفسية لمن نجو بحياتهم، أغلب الضحايا فتيات وفتيان. لم يكتفي بوبكر ببيانات التنديد على غرار ما تم، بل سيعمل على مساعدة العائلات على تنظيمهم وتوجيههم للمطالبة بفتح تحقيق بخصوص ماجرى، والمطالبة بحقوق الضحايا، وعمل على مرافقتهم خلال محطاتهم النضالية، وتقديم المساعدة المطلوبة، المادية، والمعنوية.
ويبقى أهم دعم قدمه بوبكر هو التحسيس بهذه القضية خارج البلد، وذلك باستثمار علاقاته النضالية بالخارج، وربط الاتصال بالنقابات، والفاعلين الحقوقيين والسياسيين، لخلق رأي عام ضاغط اتجاه شركات النسيج العالمية التي تستخدم شركات المناولة بالمغرب، وتتغاضى عن ظروف الاشتغال المزري، مما يتسبب في مآسي لغياب شروط العمل.
واستغرقت عملية تجميع عائلات الضحايا، وإقناعهم بالنضال من أجل حقوق أبنائهم كثير من الوقت والجهد، دفعه أحيانا للسفر نحو مدن متفرقة لربط الاتصال بالعائلات، وإقناعها للالتحاق بالمجموعة.
حكى بوبكر بكثير من التأثر عن انتقاله لمدينة وزان لإقناع امرأة مكلومة في ولدها-ضحية المعمل المشؤوم- تقضي يومها نحيبا على قبر ولدها الوحيد، وكيف سيقنعها للإلتحاق بجنب عائلات الضحايا بطنجة، وذلك أجدى، وسيرتاح ولدها بقبره عند كشف الحقيقة وتحقيق العدالة ،بعد محاولة طمسها بدفن الضحايا تحت جنح الظلام ، وهكذا سيعمل على تسهيل ذلك ومساعدتها في الاستقرار المؤقت.
للإحاطة ببعض فصول هذه الحكاية المأساة، وبعد نضال طويل سيتم انتزاع سكن ، والتعويض بمبالغ مالية، في انتظار تنفيذ حكم المحكمة على شركة أمانديس ومسؤوليتها في الحادث.
مساء تأبين الفقيد بوبكر الخمليشي، كنت أرقب تلك السيدة القادمة من وزان، بخيمة التأبين حيث تتوالى الشهادات في حق الراحل، كم كانت تود أخذ الكلمة لو كانت تمتلك شجاعة الحديث في حضرة الحضور الكبير،على غرار عاملات يحتفظن لبوبكر بجميل الدعم والتضامن خلال اعتصامات عمالية، وقد أدهشن الحضور لمدى عفوية وصدقية كلماتهن.
لترقد روحك بسلام بوبكر، بعد هذا المسار الذي تعرف خلاله الاستكانة، ولم يتسلل قط الإحباط والتعب لروحك الوديعة.