الغرفة_101
ما ظهر في مقاطع الفيديو التي بثّها الصديق حميد المهداوي ليس مجرد تسريب من اجتماع لجنة تسمّي نفسها “لجنة التأديب” داخل المجلس الوطني للصحافة، بل هو عيّنة حيّة من الطريقة التي تُدار بها شؤون المواطنين في هذا البلد في غرف مظلمة ودهاليز معتمة، كما لو أننا أمام نسخة من رواية جورج أورويل 1984 وقد خرجت من بين صفحاتها لتستوطن واقعنا.
في رواية أورويل، كان البطل "ونستون"، “موظف الحقيقة” الذي يُطلب منه طمس الحقيقة، يواجه مصيره داخل الغرفة 101، الغرفة الأكثر رعباً، حيث الهدف ليس محاكمته بل تكسير روحه، وتقويض قدرته على المقاومة، وإعادة تشكيله ليصبح فرداً مطيعاً للحزب. لكن المفارقة أن “الغرفة الجديدة” التي رأيناها في التسريبات بدت أكثر قسوة وبدائية من خيال أورويل نفسه: هنا، لا أحد يريد إعادة تشكيل المهداوي، ولا “إصلاحه” ليصبح فرداً صالحاً يخدم "الحزب/البلد"، هنا، ببساطة، الهدف هو اغتياله رمزياً، محوه، إعدام صوته، وتحويله إلى ما تحت درجة الصفر.
ما شهدناه ليست محاكمة تأديبية، بل مشهد مكتمل الأركان من “ديستوبيا" الواقع، أو بالأحرى "ديستوبيا" تلفزيون الواقع، أو "ما بعد الديستوبيا"، بوجوه حقيقية، وأصوات حقيقية، وغرفة تطل نافذتها على حديقة، بينما داخلها تُرتكب أعمالٌ شيطانية لا تخطر حتى على خيال روائيّ كبير مثل أورويل. لغة قائمة على الغلّ الشخصي، والحقد المرضي، تمتح عباراتها من كلمات نابية ساقطة وتعابير سوقية، وأخرى غرائبية مثل “إش.. إش”، التي تبدو كما لو أنها قادمة فعلاً من لغة مملكة “أوشانيا”، لغة لا يعرفها إلا شياطين السلطة حين يتكلمون في ما بينهم.
ما كشفته التسريبات هو الوجه العاري لـ "تفاهة الشر " حين يتجلى في أشخاص يُفترض أنهم أصحاب “صفة اعتباريّة”، يعملون في غرفة مغلقة على صياغة حكم بالإعدام الرمزي ضد زميل لهم يرفض "طمس الحقية" أو تزويرها، تنفيذا لتعليمات "الأخ الأكبر"، زميل يخالفهم الرأي، أو بالأحرى يخالف أسيادهم الرأي، لأن مثل هؤلاء "المنفذين"، كما بدا من التسريبات، لا رأي لهم، فهم جاؤوا ليشرعنوا الحكم الصادر عن الجهة التي توظفهم للقيام بأعمال ترقى إلى مستوى القذارة.
لكن الأخطر أن هذا المشهد ليس استثناءً، بل هو الشاهد الصغير على ما يحدث في الغرف الكبرى، حيث تُصنع القرارات المصيرية التي قادت البلاد إلى ما وصلت إليه اليوم، أي العشرات من الغرف المغلقة التي تتحكم فيها شبكات تعتبر نفسها فوق القانون وفوق المحاسبة، شبكات تُشبه العصابات والمافيات في منطقها، تُمسك برقاب الناس وأرزاقهم ومصائرهم، بينما تُدير ظهرها للوطن الذي حولته إلى مزرعة تُدار فيها حياة المواطنين بمنطق العبيد، بلا احترام ولا كرامة ولا إحساس بالمسؤولية.
الغرفة التي رأيناها في تسريبات المهداوي ليست سوى النافذة التي كُشف عنها الستار بالصدفة، أو النافذة التي أتاحت لنا أن نٌطل من خلالها على ما يجري داخل مملكة “أوشانيا” الجديدة… تلك المملكة التي تُدار فيها الحياة بمنطق الخوف، والولاء، والتأديب، وتكسير الأصوات والعظام والأرواح..

Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire