يفقد الحقل الصحفي الدولي إسما لامعا في مجال الإعلام الحربي، روبرت فيسك الصحافي البريطاني الذي قضى على إثر سكتة دماغية في بيته بدبلن لينقل على إثرها إلى مستشفى سانت فنسينت حيث فارق الحياة.. روبرت فيسك وبغضّ النظر عن نتائج تغطياته الكثيرة في المعارك والحروب بما فيها الأهلية التي عرفتها مناطق كثيرة في العالم بإيرلاندا وأفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان وسوريا والجزائر وغيرها فهو صحفي مخضرم آمن بالميدان وليس بتحرير الأخبار من داخل الفنادق كما صرح منتقدا زملاءه ذات يوم..هناك من يعجبه رأيه هنا ولايعجبه رأيه هناك..كل يقرأه بحسب وجهة نظره المسبقة..الكثير ممن نعوه اليوم يقولون بأنه وباستثناء سوريا كان مع القضايا العربية وضد الامبريالية كما يقول زعاترة وهو يعكس وجهة نظر الإخوان، هذا مع أنّ الحرب على سوريا هي حرب إمبريالية والإخوان هم آخر من يجوز له الحديث عن الإمبريالية لأنهم إن تسامحنا في نشأتهم الإمبريالية فهم كذلك من حيث أدوار تاريخية كثيرة منها ما حدث خلال السنوات الأخيرة. ولأولئك نقول بأن الإخوان تقاسموا طيلة السنوت الماضية ما اعتبروه إحصائية مصدرها روبرت فيسك حول ما سمي بأحداث حماة المفتعلة، ولا أدري حتى الآن كيف تمت تلك الإحصائية الغريبة من قبل صحفي لا يتوفر على أدوات الإحصاء ولا منهجيته فضلا عن شروطه اللوجستيكية، لكن سرعان ما عابوا عليه انحيازه في الحرب على سوريا لنظامها المكافح..
ويحسب لروبرت فيسك أنّه وقف إلى جانب قضايا عربية حتى في الوقت الذي تنكّر لها صحفيون ومثقفون عرب كالقضية الفلسطينية وقضايا أخرى كاليمن والبحرين التي أخرجها المحلل العربي من أجندة الإنصاف والتحليل الميداني..إذا تجنبنا ما يبدو هنات تقنية حتى لا أقول مهنية فإنّ روبرت فيسك بات مدرسة في الإعلام الحربي والتحليل السياسي للأزمات الدولية ولا سيما الشرق الأوسط باعتباره كبير المراسلين الغربيين في الشرق الأوسط وله في ذلك آثار تشهد على ذلك.
ويفضح روبرت فيسك المستوى الذي تظهر عليه الصحافة التي تبدو مقارنة مع ما قدمه منذ بداية السبعينيات حتى اليوم مجرد صحافة هاوية وتجارة في تثبيت الإعتقاد السياسي أكثر مما هي صحافة بحث وتحقيق وتقصّي للحقائق. وتشهد السنوات العشر الماضية على المسافة التي تفصل بين آراء روبرت فيسك وآراء نظرائه ممن أساؤوا لمهنة الصحافة ورسالتها، الصحافة المستقيلة لا المستقلّة، وخبراء الميكروطروطوار الذين أفسدوا البيئة العقلية وتدانوا بالأيديولوجيا إلى عنف الانحطاط والتّفاهة.
في مثل هذه الظروف حيث العالم في حاجة إلى خبراء ومحللين سياسيين يجتهدون في الإنصاف، يمتلكون أدوات التحليل والخبرة الكافية من حدس وانطباع الواقع والميدان، نودع رجلا إعلاميا مخضرما اجتهد قدر وسعه ومنح الصحافة قيمتها التي قّضها جيل الارتزاق الإعلامي والاصطفاف والتّفاهة والتآمر.
في السنوات الأخيرة توقف زمن التحليل، وما كنا نلاحظه هو اجترار لعوائد وتثبيت لاعتقادات، لقد فقد العقل العربي آخر ما يملك من أدات التمثيل والتمثّل، وطغى الكلام على الحقيقة بشروطها المعرفية والتّاريخية، سلطة الميديولوجيا ووسائطها الذي يغلّب رأيا على رأي ولا رأي لمن لا يطاع..كل أشكال المسوخ الثقافوية والصحافوية طفت في مستنقع الأزمات، وكان ذلك كافيا لجعل عصرنا العربي عصرا بالغ القرف.
نستغلّ هذه المناسبة لنتحدث عن الحاجة إلى نموذج الكبار الذين تركوا بصمات رفيعة في الجسد الإعلامي، لأنهم آمنوا بالكلمة وأدركوا أن حقل الإعلام ورسالته هو حقل ألغام، فالإعلام اليوم يعاني أكثر مما تعانيه البشرية من جائحة كورونا، المؤسسة أو المقاولة الإعلامية باتت مأوى للسماسرة والمتآمرين على الحقيقة والممارسين التّافهين للإخبار على طريقة الاستهلاك للمنتوج المستعمل والسريع، مجال لاختراق الجهل والتسطيح والإثارات الفارغة التي تشوّش على مسار تكامل العقل. ففي تجربتنا الطويلة مع الإعلام بما فيها أشكال الإعلام المعوّل عليها لا زلنا نواجه خيبة أمل كبرى، غياب المهنية، الثقافة، العمق، الصّدق وغلبة نزعة المتاجرة والسمسرة ومخرجات علاقات عامة أدخلت المقاولة الإعلاموية في تناقضات وفشل ذريع، ونهاية عصر الكفاح بالكلمة، إنما هي مقاولات لتصفية حساب أو حيث يوجد سماسرة يمثلون جسورا لاختراق مصداقية إعلام أشبه ما يكون بتصريف بهلواني للتّفاهة...
إن خبر وفاة روبرت فيسك يذكرنا حقيقة في هذه المهزلة الكبرى في دنيا إعلام متدنّي وراقص على الجراح والحقيقة..يجعلنا نخشى من تراجع الزمن الجميل لرسالة الإعلام حيث كبرت الكلمة من خلال الكبار قبل أن تتدانى من خلال الصغار، ذلك لأننا لا زلنا نستهين بمكانة الكلمة في تاريخ المعنى، وبأنّ الإعلام الحرّ عليه ان ينظّف بيته الداخلي ويسدّ ثقوبا من شأنها أن تشكل منافذ للفئران والزّيف الممنهج.
فالعزاء للإعلام الحر والمستقل والمكافح والمثقف والمناهض لسماسرة المغالطة..والعزاء للجسد الاعلامي الجريج بفقد الكاتب والإعلامي الكبير روبرت فيسك.
ادريس هاني: 1/11/2020
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire