اندلعت في فنزويلا، بالتزامن مع الهجوم العام للإدارة الأمريكية في أوكرانيا، وميلانها إلى التصعيد في سورية، اضطرابات وأعمال شغب في الشوارع سارعت وسائل إعلام غربية، على رأسها الـCNN، لتبنيها والترويج لها باعتبارها امتداداً لاتينياً لظاهرة "الربيع العربي": الشعب يريد إسقاط النظام... بدعمٍ مباشرٍ من الإمبريالية والصهيونية! ألا فلتحيا "الحرية" و"الديموقراطية" المصممتان على قياس العم سام.
وكان الرئيس الأوكراني المخلوع فيكتور يانكوفيتش قد قدم كل التنازلات التي طالبته بها المعارضة المدعومة غربياً، وأكثر، فوافق على: انتخابات رئاسية مبكرة وحكومة ائتلاف مع المعارضة وعدم إعلان حالة الطوارئ في وجه العنف المتصاعد وتعديل دستوري يحد من صلاحياته وقبول وصاية الاتحاد الأوروبي في "المصالحة" المنشودة مع المعارضة، متخلياً عن السلطة فعلياً... ولم تؤدِ تلك التنازلات كلها إلا إلى التصعيد في الشارع لفسخ تحالف أوكرانيا مع روسيا الاتحادية ولتفجير فتنة أهلية على حدودها، مع تحذيرها من قبل الغرب بعدم التدخل وإلا...
أما الرئيس الفنزويلي نيكولاس ماذورو، سليل الثورة البوليفارية، فلم يكن صنو زميله الأوكراني في الوهن والخوَر وقلة الحول والطول، بل تعامل مع ما يجري في شوارع بلاده على حقيقته كثورة مضادة بأدوات "القوة الناعمة" تدعمها الإمبريالية الأمريكية والطبقة السياسية الفاسدة التي خسرت السلطة وامتيازاتها عندما وصل هوغو تشافيز للحكم في العام 1999
الشخصية القيادية الأبرز في المعارضة الفنزويلية مثلاً هي ليوبولدو لوبيز الذي شارك في العام 2000 بتأسيس حزب "العدالة أولاً" من خلال برنامج الدعم المالي لـ"منظمات المجتمع المدني" في فنزويلا الذي يقدمه الوقف القومي للديموقراطية National Endowment for Democracy (NED) ووكالة التنمية الدولية للولايات المتحدة USAID التابعان للإدارة الأمريكية، ومن خلال أموال فساد تم تحويلها عن طريق والدته من شركة النفط الفنزويلية قبل أن يستعيد تشافيز السيطرة على تلك الشركة في العامين 2002-2003 بعد الإضراب العام الذي شاركت فيه كجزء من محاولة محاصرة تجربة تشافيز اقتصادياً، والذي انتهى بانقلاب عسكري مدعوم من الولايات المتحدة في "ربيع" العام 2002، هذا الانقلاب الذي اعترفت به الولايات المتحدة قبل أن يعيد الشعب والجيش تشافيز إلى سدة الحكم، لتعود بعدها وتدين الانقلاب الذي دعمته بعد فشله.
تبقى العبرة أن تباكي حكومة الولايات المتحدة على الديموقراطية في فنزويلا (أو مصر) أو أي مكان في العالم هو محض هراء... فقد حاولت أن تكرر مع تشافيز في فنزويلا عام 2002 ما فعلته مع سلفادور الليندي في تشيلي عام 1973، وها هي تحاول من جديد أن تنقلب بأدوات "القوة الناعمة" على الرئيس ماذورو المنتخب ديموقراطياً في العام 2014
وهي تدعم الانقلابات العسكرية التي تخدم مصالحها فحسب، وتدين تلك التي تتعارض مع مصالحها... أو التي تستهلك اغراضها. كل ما في الأمر أن حكومة الولايات المتحدة باتت تتقن علم الثورة المضادة وفنها، أي القدرة على تحريك الكتل الجماهيرية على نحوٍ يجعل الانقلابات التي تخدم مصالحها تبدو كحراك شعبي مشروع، كما في حالة أوكرانيا أو فنزويلا اليوم، ويجعل حتى رئيسين منتخبين ديموقراطياً مثل يانكوفيتش وماذورو يظهران كديكتاتورين مصاصين للدماء إذا وقفا في وجه اجندتها ومشاريعها.. ويجعل حتى أكثر الملكيات المطلقة تعفناً تبدو كأعظم رافعة لـ"الحرية" و"الديموقراطية" في ما بات يسمى تجنياً "الربيع العربي".
وكان ليوبولدو لوبيز "الديموقراطي" قد شارك شخصياً في تنظيم الانقلاب العسكري على تشافيز في العام 2002، كما أنه لعب دوراً رئيسياً على سبيل المثال في اعتقال وزير الداخلية الفنزويلي في حكومة تشافيز آنذاك رامون رودريغيز، ولم يؤدِ ذلك لإعدامه أو اعتقاله أو منعه من العمل السياسي (وهي من الهفوات الليبرالية للتجربة التشافيزية التي ينفذ اعداء التجربة عبرها لتخريبها من الداخل)، بل استمر في منصبه كرئيس لبلدية ضاحية "تشاكاو" التي يقطنها الأثرياء في العاصمة كراكاس منذ العام 2000، وأعيد انتخابه (بعد مشاركته في الانقلاب) لنفس المنصب في العام 2004، لكن تم منعه من إعادة الترشح للانتخابات بعد انتهاء فترة رئاسته لبلدية "تشاكاو" في العام 2008، بعد إدانته في العام 2005 بتهم تتعلق بإساءة استخدام أموال البلدية التي يرأسها في غير موضعها، وهو ما اعتبرته الإدارة الأمريكية وبعض المؤسسات الدولية "انتهاكاً للديموقراطية وحقوق الإنسان".
اعتبر ليوبولدو لوبيز بالطبع ما تعرض له ظلماً كبيراً خاصة أنه كان يعمل في شركة النفط الفنزويلية في العام 1998، حيث كانت والدته مديرة الشؤون العامة في تلك الشركة في تلك الفترة، فقدمت الأم الحنون منحةً ماليةً ضخمةً من أموال الشركة لدعم الحزب الذي شارك الابن ليوبولدو بتأسيسه... فأنى لمن تعود أن تكون أموال البلاد والعباد تحت تصرفه الشخصي أن يستوعب أن إنفاق الأموال العامة على هواه هو انتهاكٌ غير مقبول، في حين يحاول ملايين الفنزويليين أن يبنوا مشروعاً تحررياً نهضوياً وحدوياً اصطلح على تسميته مجازاً في عموم أمريكا اللاتينية بالمشروع البوليفاري، تيمناً بسيمون بوليفار الذي حرر عدة دول في أمريكا اللاتينية من الاحتلال الاسباني في القرن التاسع عشر وسعى إلى توحيد جنوب القارة في إطار دولة واحدة، مع العلم أن ليوبولدو لوبيز ينتسب سلالياً، وليس فكرياً، لجده الأكبر سيمون بوليفار.
في العام 2009 اعلن ليوبولدو لوبيز عن تشكيل حزبه "الإرادة الشعبية" الذي شارك في انتخابات البلديات وحاكمية الولايات في 8/12/2013 التي خسرت المعارضة الفنزويلية معظم مقاعدها، فذهبت 256 بلدية من أصل 337، و14 حاكمية ولاية من 24، للحزب الحاكم، الحزب الاشتراكي الموحد وحلفائه، والآن بات ليوبولدو لوبيز الجربا أخيراً رهن الاعتقال بسبب التحريض على العنف وتنظيمه في الشارع رداً على نتائج تلك الانتخابات: ذلك هو فحوى "الربيع اللاتيني".
إبراهيم علوش
البناء 5/3/2014
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire