هشام البستاني
"يُحكى أنَّ، كان يا ما كان،
سرقوا بلادنا الأمريكان.. يُحكى أنَّ، يا أحفاد، أمريكا دخلت بغداد.." هكذا
كانت الفرقة المصريّة "إسكندريلا" تغنّي في فندق من فنادق النجوم الخمسة
في عمّان، أمام يافطة تحفل بأسماء وشعارات مموّلين كثر تمت تغطية أكثرهم فضائحية
بلوحين مُرتجلين لدواعي الحياء الذي هبط فجأة قبل الحفل على ما يبدو : USAID
والسفارة الأميركية.
وهنا يكون العتب على الفرقة الموهوبة على قدر
المحبة والأمل، ويتبادر إلى الذهن أن المشهد سوريالي : فرقةٌ أحبّها الناس
لأغنياتها المناهضة للإمبريالية والمحرضة على التحرّر ولحملها المنجز الفنّي
الراديكالي للشيخ إمام؛ تقبل على نفسها أن تُستضاف وتُشارك وتُغني في ملتقى تدعمه
الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (الذراع التدخّلي التمويلي للإدارة الأميركية)،
والسفارة الأميركية نفسها، هو "ملتقى المدافعين عن حريّة الإعلام في العالم
العربي" الذي ينظمه "مركز حماية وحريّة الصحفيين"، وعقد مؤخراً في
العاصمة الأردنية.
لكن غلواء السوريالية ستخفت تدريجياً حين
نعرف أن أمام ذات اليافطة، ودون تغطية، تناوب (تكريماً أو تحدّثاً أو غناءً)
مجموعة من فناني وكتّاب الخط "الملتزم" أو "التحرّري" أو
"المقاوم" من فلسطين ومصر ولبنان والأردن : مارسيل خليفة، أميمة
الخليل، ريم البنّا، أمل مرقص، محمد محسن، زاهي وهبي، كمال خليل (مؤسس فرقة
بلدنا)، وإبراهيم نصر الله.
لطالما استعمل بعض هؤلاء القضايا التحرريّة،
وعلى رأسها القضيّة الفلسطينية، سلّماً لصعودهم الفنيّ أو الأدبي، وهو سلّمٌ
"يتحمّل" كثيراً، ويصنع شُهرةً بغض النظر عن الجدارة الفنيّة والأدبية.
هنا يبرز سؤالان : ألا يجب على الكاتب
والفنّان "الالتزام" بالأبجديات الأساسية التي يعبّر عنها في فنّه
وأدبه؟ ألا يجب أن تتمثّل فيه "مقاومة" حب الظهور والرغبة العارمة
بالتكريم لصالح القيم الكبرى التي ساهمت في صناعة اسمه؟
منظمو الملتقى لم يُخفوا يوماً علاقاتهم
المتجذّرة والمتعدّدة المستويات بـ السفارة الأميركية وغيرها من السفارات وجهات
التمويل (وعدم الإخفاء هذا أمرٌ يُحسب لهم)، والعلاقات هذه معروفة جيّداً في
الأوساط الإعلاميّة والثقافيّة وللجان ونشطاء مقاومة التطبيع الذين يشتغلون أيضاً
في مواجهة التمويل الخارجيّ التدخليّ. وفوق هذا فإن الملتقى وضع أسماء وشعارات
الجهات الداعمة له بوضوح على موقعه الإلكترونيّ، وثبّتها على يافطة عملاقة بمساحة
18 متراً مربعاً وارتفاع ستة أمتار خلف منصة الملتقى الرئيسية، وظهرت الشعارات
إياها أيضاً على بوسترات الحفل وتذاكره التي وزعت بالمجّان على الراغبين بالحضور.
لا عذر إذاً بادّعاء "الجهل"،
والتصريح بأن "استغفالاً" وقع، وأن "فخاً" نُصب، لمحاولة
لملمة الأمور والسير قدماً في محاولات الضّحك على الذات وعلى الآخرين.
المشكلة الأخرى أن ما يزيد عن ألف من الناس
حضروا الحفل، وغنّوا فيه ورقصوا، وهؤلاء يُفترض أنهم من جمهور الغناء
"الملتزم" و"المقاوم" و"التحرّري"، أي من جمهور
القضيّة التي يمثلها مثل هذا الغناء.
هؤلاء أيضاً لم يجدوا مشكلة في الدّبك أمام
يافطات الـUSAID
والمانحين الآخرين، والاستفادة من الدعم الذي أتاح لهم حضور حفل غنائي تزاحم فيه
نجوم الغناء "المقاوم" بالمجّان، وبعد أن وقّع كل حاضر باسمه على كشوفات
الجهة المنظمة قبل استلام تذكرته ذات الشعارات الكثيرة، في حركة ذكيّة تتلخّص بأخذ
توقيع كل من دخل المكان، وبالتالي الحصول على مباركته -على صيغة عرائض التوقيع-
للتمويل الأميركي الرّسمي وبقية المانحين.
هناك هوّة فاصلةٌ بين أن يمارس
"المثقف" الأفكار التي يعبّر عنها في إبداعه، وبين أن يستعمل القضايا
والأفكار من أجل الانتشار الجماهيريّ والشهرة؛ وهناك فارقٌ نوعيّ بين أن يحمل
"الجمهور" القضايا الثورية من أجل دفعها قدماً في الواقع الموضوعيّ،
وبين أن يحملها لدواعي ملء الفراغ الاجتماعي وتفريغ الكبت.
هناك فاصل من السنوات الضوئية بين المنتَج
الإبداعي، والمنتَج المكيّف شعبويّاً؛ بين التلقّي الواعي، والاستهلاك.
يبدو أن الطريق الذي "ما لوهش
راجع" صار محسوماً عند كثير من المرسلين والمتلقّين : طريق يسير باتجاه
السفارة الإسرائيلية التي تُؤخذ منها الفيزا لإقامة الحفلات الغنائية المدفوعة
الأجر في الداخل المحتلّ تحت ذريعة "التواصل".
ومثال ذلك، فرقة "أوتوستراد" من
الأردن التي اقترفت تطبيعاً مع السفارة الإسرائيلية في عمّان، وصارت لاحقاً تتلقى
تمويلاً من الـUSAIDللمشاركة في الحملة التي تنظمها هذه الأخيرة
للحث على توفير المياه، مما يقول الكثير عن ارتباط التطبيع بالتمويل؛ وباتجاه
السفارة الأميركية وبرامجها التمويلية المتعددة المجالات، وباتجاه الاتحاد
الأوروبي وسفارات دوله. طريقٌ تُباع على رصيفه أوهام "التحرّر"
و"التقدّم" بأموال حكومات الاحتلال والتدخّل والهيمنة.
الطريق الذي لا عودة منه ذاكَ تحوّل جذرياً
على ما يبدو، إذ لم نسمع من "المقاومين" سوى الأعذار بدلاً من الاعتذار،
والتبرير بدلاً من النقد الذاتي. أما القضايا الكبرى، كما يبدو، فهي مجرّد واسطة
النقل إلى أرض الأحلام الانتهازيّة الصغيرة.
كاتب من الأردن
عن "العربي الجديد"
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire