حتى لا ننسى مثل هذا اليوم لسنة 1990. يوم الإنتفاضة الخالدة 14 دجنبر بمدينة فاس.
قبل 14 دجنير من سنة 1990 بيوم واحد، كنا ونحن شبابا في منتهى الحماسة والإندفاع، نوزع المناشير على المواطنين، وندعوهم للمشاركة في الإضراب العام لإسقاط الحكومة والبرلمان آنذاك. كنا حذرين في تعبئتنا للجماهير الشعبية بحكم جحافل البوليس السري التي كانت تراقب حملاتنا وتلتقط من بيننا كل من صادفته وهو يوزع المناشير ويدعو الناس إلى الإضراب العام. ورغم اتخادنا الحيطة والحذر في دروب وأزقة مدينة فاس. لم يسلم منا عدد من الرفيقات والرفاق بالشبيبة الإتحادية بمدينة فاس من الإعتقال. ورغم ذلك استمرت تعبئتنا وحملتنا حتى وقت متأخر من ليلة انتفاضة 14 دجنبر.
عند نهاية التعبئة الشاملة للدعوة إلى الإضراب، وفي نفس الليلة. جاءت تعليمات القيادة الإقليمية للإتحاد الإشتراكي لتحُثّ كل المناضلين على عدم مغادرة بيوتهم في يوم الغد، وبأن مهمتهم وحملتهم التعبوية قد انتهت. ربما كان هذا خوفا على المناضلين من الإعتقال، أو ربما أن هذه القيادة الحزبية كانت على علم بما سيقع في اليوم الموالي، فلذلك وجب الأخد بالحذر. لكنها كانت تعليمات لم تعني لي شيئا، وشخصيا لم أفهمها في حينها، لكونها كانت غامضة بالنسبة لي، وجعلتني أنام وتحت وسادتي عدة أسئلة مقلقة لم أجد لها أجوبة إلا في يوم الغد. يوم الإضراب العام، الذي دعت إليه النقابتين، الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، والإتحاد العام للشغالين..
نحن الآن في صبيحة يوم 14 دجنبر، اليوم الخالد في الذاكرة الجماعية لكل ساكنة مدينة فاس. فحتى الساعة العاشرة صباحا والأمور تسير بشكل طبيعي وعادي، رغم أن الأمر لم يكن عاديا بالنسبة للنظام السياسي أمام الإجماع الذي حصل بين كل الشرائح من مواطنين، وتجارا صغارا، وحرفيين، وموظفين، ورجال التعليم، وكل القطاعات الحيوية، وغير الحيوية على التجاوب والمشاركة في هذا الإضراب العام.. وهذا ما لم يعجب المخزن. فكان عليه أن يفسد للشعب فرحته بهذا النجاح، ويفسد عرسه النضالي التاريخي، ويبحث عن مقالب لتبرير عدم تلبية المطالب التي كانت من وراء هذا الإضراب الناجح. فقام بفبركة أحداث درامية دامية، قادها هو بنفسه في الميدان.
في البداية، وبحكم أن الإضراب كان ناجحا، لم تكن لدى الناس أية نية أو رغبة في المواجهة مع الأمن أو العسكر، أوتخريب المنشآت، وإحراق ممتلكات الناس، ومرافق الدولة الإدارية والسياحية والسيارات والأبناك، إلا بعد ظهور عناصر بوليسية مدنية ملثمة، من ضمنها عناصر مشبوهة كانت محسوبة على نقابتي الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، والإتحاد العام للشغالين. هم من شرعوا في البداية في إشعال النار وتحريض الناس على مشاركتهم في التخريب. ثم انصرفوا تاركين القطعان الجاهلة والقاصرة، وأنصار الكرة، وأصحاب السوابق لإتمام ما بدأوه من تخريب وإشعال للحرائق. فكان السيناريو محبوكا والإخراج مضبوطا، كما أراده النظام. لتفرغ شاحنات الجيش جحافلها من العسكر، وتنتشر في كل شوارع وأحياء المدينة، مدججة بكل الوسائل الحربية القتالية..
مدينة فاس تُطبخ على نار غير دافئة. صوت الرصاص يلعلع في كل مكان. في الشوارع والأزقة، بل حتى في الدروب العتيقة الضيقة. العسكر يطلق النار عشوائيا، على كل الناس الذين كانوا خارج بيوتهم، وعلى كل من قادته خطواته ليكون في قلب الأحداث. ولم يستثني الرصاص حتى الأطفال الصغار الذين كانوا وكأنهم في لعبة حرب إلكترونية مسلية. فكيف لي أن أنسى الطفلة الصغيرة التي كانت تطل من نافذة منزل أسرتها بحي الجنانات؟ إطلالة لم تدم سوى دقائق معدودة، لتجمد في مكانها على مكب النافذة والرصاصة مستقرة بين حاجبيها، شاهدة على دناءة المؤامرة، ورداءة السياسة. ولن أنسى كذلك أحد أبناء “حومتي” الذي لم يخرج سوى للبحث عن “قابلة” لزوجته التي أدركها مخاض الولادة. فإذا بالرصاص يخترق جسده، ليترك وراءه زوجة وصبيا بكرا كان في طور الولادة. وهناك المئات ممن لقوا حثفهم برصاص النظام، لا لشيء سوى لتواجدهم صدفة في عين الشهادة.
هرولت إلى منزلنا بباب الفتوح، ثم صعدت رفقة والدي رحمه الله، إلى سطح منزلنا لمعاينة مايقع في كل الأحياء. السماء رمادية مظلمة. الدخان وروائح البارود تنبعث من كل الفضاءات والأمكنة. أينما وليت وجهك، ترى الدخان والحرائق وأصوات القرطاس تلعلع باستمرار وكأننا في موسم قنص الأرواح. وفجأة ظهرت طائرات الهليكوبتر وهي تتراقص في السماء. والدي رحمه الله، وبحكم أنه كان جنديا سابقا، وعاش حروبا ومعارك في الكونكو ولاندوشين والصحراء والجولان، ولاعتقاده بأن هذه الطائرات التي تحوم فوق رؤوسنا سوف تقصفنا. فقد سارع وهوى بجسده على السطح، ثم بدأ يحبو على مرفقيه وركبتيه كما يفعل الجند والعسكر أثناء المعارك والقتال. الموقف بالفعل كان مضحكا ومسليا، لكن هول الكارثة أغلق لي شهية الضحك والمزاح، أمام “معقول الرصاص والقرطاس، ديال بصاح”.
المواجهة الغير متكافئة ظلت متواصلة، بين أبرياء عزل بدون سلاح، وجحافل من القوات العمومية والعسكرية تمتلك كل عتاد الحروب والقتال. وصوت الرصاص لا زال مستمرا بمنطقتنا باب الفتوح وما جاورها من الأحياء الهامشية. ولم يتوقف إلا تدريجيا مع ظلمة المساء. فلم يعد لأحد وجودا في الشوارع، غير الجند ودباباتهم وجثث الشهداء. ولأن المغرب لم يكن فيه لا يوتوب ولا تويتر ولا فيسبوك، فقد كانت هذه الأحداث عرضة للتعتيم والكذب آنذاك. فقد كان لابد أن يطل علينا مقدم نشرة الأخبار الممسوخ الذي أشبعه المواطنون شتما وسبا حين قال أن مدينة فاس عرفت أحداثا، خلفت إصابات في صفوف بعض المخربين ورجال الشرطة، فيما لقي شخص واحد حتفه. كيف؟ شخص واحد؟! ففي المنطقة التي أسكنها وحدها، دون غيرها من المناطق الأخرى، لقي فيها المئات من المواطنين حتفهم ودفنوا في مفابر جماعية بما فيهم أطفال أبرياء، تهمتهم الوحيدة هي تواجدهم صدفة في الشارع ليكونوا ضحايا لعبة سياسية قذرة، يخجل منها الشيطان.
يوم 15 دجنبر. خمدت النيران، وبدأ الناس يتسللون من بيوتهم إلى الشوارع، لتتبع الأخبار، والمعلومات حول من قتل ومن لازال على قيد الحياة. خرجت مثلهم أراقب الحياة ما بعد يوم الرصاص. فوجدت منطقة باب الفتوح محاصرة بالجند والعساكر والدبابات الحربية المنتشرة في كل مكان. حتى بعض المقاهي، التي فتحت أبوابها بعد الإضراب العام بحي واندو بباب الفتوح، وجدت نفسها وجها لوجه مع أفواه المدافع وبنادق العسكر. وبموازاة مع هذه العسكرة، كانت هناك حملة اعتقالات واسعة في صفوف الآلاف من شباب مدينة فاس والأحياء الهامشية المحيطة بها. أغلبهم جاهلون، ومنحرفون، وذوو سوابق، استغلوا من طرف المخزن وبعض المشبوهين المحسوبين على النقابتين الداعيتين للإضراب العام ليكونوا حطب المرحلة بعد استغلالهم في إفساد النجاح الكبير والتجاوب الشعبي الباهر الذي حققه الإضراب العام يوم 14 دجنبر.
أغلب الذين اعتقلوا، كانوا قبل القصف بالرصاص، يحرقون وينهبون ويسرقون، وبالفعل رأيت كيف كان البوليس يخرجونهم من منازلهم وهم مرفوقين بما سرقوه من أثاث وتحف وزرابي لفنادق سياحية، ومعدات إلكترونية، وعددا من غنائم الحرب والقتال. لكن ورغم كل ذلك فقد تم اعتبارهم مناضلين ومعتقلين سياسيين لاستغلالهم بمكر في أغراض سياسية. وما أضحكني كثيرا هو أن من ضمن هؤلاء المعتقلين، أحد أبناء حينا المعروف بلقب “حْلِيوْتِي” الذي ورغم أنه شخصا مختلا عقليا فقد وجد نفسه معتقلا سياسيا دون علمه. فتم الحكم على هؤلاء بأحكام سجنية قاسية لاستثمارهم في البداية من طرف الحسن الثاني وإدريس البصري، كورقة ستظهر فيما بعد، للعب بها فيما يتعلق بالعفو الشامل لكل المعتقلين السياسيين أمام أنظار العالم. وسيغادرون السجن جميعهم فيما بعد، كمعتقلين سياسيين، بينما الخصوم السياسيين الحقيقيين للنظام المغربي، ظلوا يتكبدون المعانات داخل السجون.
هذه الورقة. لا تمثل سوى شهادة شخصية حول ما رأيته بأم عيني في محطة 14 دجنبر الخالدة، كما عشتها في محيطي وليس في الأماكن المجاورة الأخرى. فأحياء بنسودة وسيدي بوجيدة وبن دباب والجنانات وكل الدواوير المحيطة، عرفت وعاشت ما عاشته منطقتي عدوة الأندلس باب الفتوح. وبالطبع كانت هناك أحداث مغايرة ومواجهات ذات طابع سياسي عنيف،عرفتها جامعة ظهر المهراز، في يوم إضراب 14 دجنبر، بعد الهجمة المخزنية الشرسة التي استهدفت المناضلين القاعديين، قبل الزج بهم في السجون.
ورغم كل هذا. تبقى محطة 14 دجنبر، من أهم المحطات الشعبية النضالية الخالدة في ذاكرة شعبنا المغربي. وبفضلها جنى المغاربة والوطن، مكاسبا سياسية وحقوقية ثمينة، لولا التفريط في هذه المكاسب من طرف النخب السياسة والنقابية ذاتها التي دعت إلى إضراب 14 دجنبر، لتعود بنا وبالمغرب، إلى عهد ما قبل هذا الإضراب الخالد..
" الصورة للشبيبة الإتحادية أيام مجدها بمدينة فاس في زمن حرب الخليج. وكل هؤلاء الشباب شاركوا في التعبئة لانتفاضة 14 دجنبر، وأنا واحد منهم.. "الثاني على اليمين جلوسا أسفل الصورة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire