" بيّاع الزمان "
لم أكن أعرفه، ولم أكن أشعر بحاجة إلى معرفته. كنت آنذاك شاباً، متحمسّاً، أخرقاً، أريد أن أغيّر العالم. وانا في طريقي إلى ساحة الTrocadéro بباريس رفقة محمود درويش لنلتقي ذلك الغريب في مقهى Le CoQ وطول الطريق كنت أتصوّر شخصاً يشبهنا ، يتميّز بالصمت والرزانة . فرأيت رجلاً لا يخفي عواطفه المتقلبّة ولا يحسب أي حساب لأي شيء .
" دنجوان " ببدلته الايطاليّة الأنيقة، يحب الضحك، فاتح الصدر ، قلبه يموج على الأيدي بسخاء فيضاني، يشرب حتّى يتعتعه السُكرْ. والقصيدة الوحيدة التي حفظتها منذ ذلك الحين هي حريته المطلقة .
تارة يتحوّل إلى أب حنون يحكي عن أولاده بحب فائق، وطوراً يحكي بشغف مارق عن عشيقاته في كل أصقاع الأرض وفي نفس الوقت كان زوجاً مشغول البال ونهر الحب الجارف لشريكته في صمت القصيدة التي لم يكتبها بعد. ثمّ يسيل شِعره بهيستيريا جنونيّة .
تفجّر أعمى، لم يكن يقول الشعر، كان هو الشعر بعينه، كان قصائد لا تنتهي. في آخر اللقاء قال لي محمود: شو هالبركان هيدا ؟!
من الصعب لمن لا يعرفه، ولمن لا يراه يجلس ويشرب ويحشّش ويمشي معه أن يكوّن فكرة حقيقيّة عن شخصيته . يرقص عارياً كالغصن تحت الشمس بلا حياء وحتى الإغماء . يقهقه بفرح الوجود الكئيب وعندما يرقص يحوّل الوجود بركاناً ثائراً وأعجوبة .
رقّص كل النساء من أجل غجريّة .
نبت كالشوكة في " بدنايل " وصار شجرة باسقة . تحرّر من قيود الله والعقل . ينزل تمزيقاً بالمحرّم ويشيّع العصيان . يحترف الكذب ويتسلّح بالشعر والحنين إلى المطلق .
" دايخ ومش سكران " يصف الأحلام كما هي ويستخدم مختلف أنواع الهزيان والهلوسة ويفيض بالعواطف .
في حديث مع كثير من الخمر بجلسة عرمرميّة على شط بحر الهوى
بجبيل - متل هالايام من شي سنة - قال لي هامساً والدمعة في عينيه :
- لقد فشلت !
- كلّنا فشلنا يا صديقي !
" رامبو " أهم شاعر بالعالم فشل . فشل بالنسبة إلى المطلق . ولماذا لا يكون المطلق فاشلاً !؟
تطلّع إليّ بنظرة كانت كالحاجة التي لا توصف في الصداقة اللذيذة إلى روح الآخر .
شاعر حقيقيّ ، يتألم ويصرخ . . و . . يخيب . لكنّه لا يستسلم ، لا يترهّل . . أعرف بأنه يعبث به هواء الخوف وتتدحرج إلى جوانبه أوراق الغيظ والتعب والحزن ورغبة مهشمّة ، مصلوبة في الحياة . . وبالشعر الرجاء .
رقيق تخنقه الوحشة ويجرحه الحنين . . من الحزن .
بطل بقاعيّ . مأخوذ شعره من المتسكعين والباعة المتجولّين والعاملين في الحقول الغامرة بالخير والبركة .
بطل وصعلوك في آن .
حرّ حتّى الانتحار والجنون .
جاهليّ بدويّ فولكلوريّ خرافيّ .
هجّاء ، مدّاح .
جاء إلى الحياة فتدبّر أمره ، لم يقل له أحد أن يجيء " إجا وعِلِقْ "
في الثمانين من عمر سريع يظلّ شاباً ، خارجاً عن المألوف ، متمردّاً ، صوفيّ التأمل والروح والحلم والتوحّد . يحب ويغني ويرقص ويهذي ويستشعر وهو يعيش في الموت .
بدائيّ ماكر ، مصاب بحب الحياة . الفاحش والبريء إلى العالم . مربوط به على شغف ، مبهور بشعلة تلتهمه كما لو كانت نار الجحيم . شعلة تجعله ينبض بشيء من الجنون .
إنه خرافة ، ولا احتمال للحياة خارج الخرافة . ولا جمال للحياة خارج الخرافة ولا حياة خارج هذا الشيء القليل أو الكثير أو التام من الجنون الذي هو الشِعر . إنه الشعر الذي يتجسّد في هذا المجنون إلى حدّ الروح . وكل شعر يضيء هو انتصار على الموت والحرب والوحشيّة والابادة الروحيّة والنفسيّة والجسديّة .
يبدو حُب الشعر عملاً أحمق ، يبدو كذبة مستحيلة ، ونؤمن في هذا المستحيل .
من يستطيع أن يحب ويستشعر وهو يعيش في الموت ؟! ذلك بالضبط هو الجنون ، ذلك بالضبط هو الرجاء ، ذلك بالضبط هو الخلاص .
الخلاص من حقارة الواقع وعجز الحقيقة والخلاص من فكرة الموت . وهذا هو ما جعلنا اليوم نأتي إلى مسرح الايڤوار لتكريمه ولنقول أن هناك أمل بعد !
طلال حيدر شكراً لك