د. إبراهيم علوش
البناء 13/11/2013
حيثما حل التدخل الأجنبي في الوطن العربي يلاحظ المرء، بالإضافة للدمار
والقتل الناتج عنه، آثاراً سياسية عميقة تدوم طويلاً بعد انتهائه ومنها:
1)
تفكيك الدولة الوطنية ومؤسساتها،
2)
حل الجيش الوطني وجهاز الشرطة،
3)
انتشار دعوات ونزعات انفصال الأقاليم والنواحي الإدارية،
4)
ازدياد عبث القوى الإقليمية والدولية بتفاصيل الحياة اليومية للبلد،
5)
انفلات حبل الأمن الداخلي على مستوى الجريمة العادية والاغتيالات العشوائية
والمنهجية،
6)
اشتعال الفتن المحلية الموضعية والحروب الأهلية،
7)
وقوع موجات هجرة كبيرة إما بسبب التدخل الأجنبي وإما بسبب آثاره السياسية
سالفة الذكر أو بسبب الاثنين معاً.
ويمكن أن نلاحظ مثل ذلك التكرار النمطي للظاهرة في العراق ثم في ليبيا
كنتاج مباشر للتدخل الأجنبي، كما يمكن أن نلاحظه في السودان كنتاج للتدخل الأجنبي
غير المباشر، ويبدو أننا على وشك أن نشهده في اليمن في ظل الحركة الملاحية
للطائرات الامريكية بلا طيار، وقد كنا على وشك أن نشهده في سورية على نطاق أكبر
بكثير لو تحول التدخل غير المباشر فيها إلى عدوان مباشر وهو ما تم إجهاضه في ربع
الساعة الأخير.
ونلاحظ في كل تلك الحالات أن التدخل الخارجي بأشكاله المختلفة يأتي تحت
غطاء "الديموقراطية" و"حقوق الإنسان" و"حقوق الأقليات
الطائفية والعرقية" ولا مانع من نقل الخطاب الإعلامي حسب الطلب من الحديث عن
"مظلومية الشيعة" في العراق إلى "مظلومية السنة" في سورية إلى
"مظلومية الأقباط" في مصر إلى "مظلومية الأفارقة" في السودان
إلى "مظلومية الأمازيغ" في المغرب العربي... وقبلها إلى "مظلومية
المسلمين" في يوغوسلافيا خارج الوطن العربي.
كما نلاحظ في كل حالات التدخل الأجنبي المباشر أو غير المباشر تركيز الخطاب
الإعلامي على فرد هو رئيس الدولة غالباً، خاصة في الأنظمة المنحدرة من تراث تحرر
وطني أو قومي، وعلى شيطنة ذلك الرئيس حتى تخاله أسوأ من ولدته امرأة يوماً حتى
يأتي دور الرئيس الذي يليه. فإذا قبل ذلك الرئيس التجاوب مع مشروع التفكيك
لإنقاذ نفسه، أو إذا قبل التنحي، فإن الضغط عليه كفرد قد يخف، لكن مشروع التفكيك
نفسه يستمر بالضرورة.
من البديهي أن التدخل الأجنبي يشتغل بالأدوات المتاحة ولا يخلقها من
فراغ. ففي المجتمعات التي لم تمر بمراحل الثورة الصناعية والنهضة والتنوير،
أي التي لم تذب فيها الطوائف والاثنيات والنزعات الجهوية في نسيج اجتماعي واحد
ينتج "مواطناً" فحسب ودولة وطنية، أو التي أجهض التدخل الأجنبي المباشر
نهضتها وتحررها القومي أو لم تتمكن دولها المستقلة عن الاستعمار أن تحقق مثل تلك
النهضة وذلك التحرر، فإن النكوص إلى الحالة الطائفية والعرقية والجهوية
والعشائرية، أي النكوص إلى حالة التفكيك، يظل مشروعاً كامناً يتطلب تحويله إلى
حقيقة كائنة الشروع بتفكيك الدولة الوطنية ومؤسساتها.
هذه الدولة وتلك المؤسسات التي لم تعجبنا لأننا أصحاب مشروع قومي أكبر باتت
اليوم مستهدفة في وجودها. فالتفكيك وكسر الحواجز السيادية هو في آنٍ معاً
مشروع الشركات متعدية الحدود التي تريد استباحة العالم استثمارياً وتجارياً بلا
حسب ولا رقيب، وهو في بلادنا مشروع الحركة الصهيونية التي لن تعرف الأمان
الإستراتيجي إلا إذا تم تحديث اتفاقية سايكس-بيكو وتمت إعادة تفكيك المنطقة إلى
شذرات.
الدول العربية طبعاً ليست سواسية، وهناك فرقٌ جوهريٌ بين تلك المتمتعة
بهامش من الاستقلالية عن الغرب، سورية نموذجاً، وتلك التابعة للغرب. من
الواضح أيضاً أن الموقف من أي قوة أو شخصية أو دولة يتحدد بناءً على مكان ودرجة
اصطفافها على جنبات التناقض المركزي مع الطرف الأمريكي-الصهيوني. لكن
المفارقة اليوم أن كل قوة مركزية متماسكة في المنطقة باتت مستهدفة وكل جيش وطني
لأن المشروع الأمريكي-الصهيوني هو التفكيك. فدول التجزئة التي أقيمت لتكون
عائقاً أمام مشروع التحرر والنهوض القومي، الدول القُطرِية المقيتة بعيوبها
الكثيرة، باتت اليوم بالرغم منها عائقاً موضوعياً أمام مشروع التفكيك بالرغم من
كونها نتاجاً لنسخته الأولى قبل مئة عام. لأن المطلوب اليوم تفكيكٌ أدهى
وأمر.
نلاحظ بالمقابل ظاهرة معولمة اليوم مناهضة لكل شكل من أشكال الوطنية
والقومية هي الظاهرة التكفيرية الظلامية التي تخوض حرباً شعواء ضد الجيش الوطني
والدولة الوطنية حيثما وجدت بغض النظر عن سياسات تلك الدولة تقريباً، أي حتى لو
كانت تابعة للغرب! وهو ما نلاحظه من اليمن إلى المغرب العربي... وحيثما
انهارت الدولة، كما في الصومال أو ليبيا أو العراق، فإنها تعمل حثيثاً لمنع إعادة
تأسيسها. وحيثما أدت التناقضات المحلية والتدخل الخارجي لإضعاف الدولة
وسيادتها، فإنها تعمق حالة الضعف تلك موجهةً آلاف الشباب المغرر بهم لاستهداف صغار
الجنود والشرطة بطريقة... لا يمكن أن تكون عشوائية.
وحول هذه النقطة تحديداً يجب أن يُطرح السؤال التالي: كيف تستطيع حركة
يفترض أن الغرب يعاديها ويحاصرها منذ عقدين أن تفتح دزينة من الجبهات المشتعلة
يومياً من اليمن للعراق لسورية لسيناء للصومال لتونس للجزائر؟! من الذي يمول
ويسلح ويدرب ويغطي تلك الظاهرة لوجستياً؟! لو فكرنا فقط بالتموين الغذائي
لعشرات آلاف الهاربين من القانون، من الذي يقوم عليه، وكيف يوصله بتلك الكميات إلى
أماكن محظورة؟!
فهل نجح الغرب باختراق تلك الحالة وإعادة توجيهها في قناة مشروعه لإعادة
تفكيك بلادنا (وغيرها، كروسيا والصين)، أم أن الظاهرة التي انتجها أساساً
لمحاربة حركات التحرر الوطني في العالم الثالث ومحاصرة الشيوعية والتي بدا للحظة
أنها افلتت منه وراحت تستهدفه قد عادت إلى بيت الطاعة؟!
نعم ثمة طائرات أمريكية بدون طيار في اليمن وحربٌ مستعرة في أفغانستان...
لكن الثقل الأساسي اليوم للتكفيريين الظلاميين موجهٌ ضد الدول والجيوش العربية لا
الغرب! ويصب تحديداً في طاحونة مشروع التفكيك...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire